1- مولودٌ مردودٌ
2- الكليم الحكيم
مقدمة:
نطلّ مِن يوم عاشوراء، والبحر قد انفلق فرقين، كلّ فرقٍ كالطّود العظيم {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشّعراء: 63].
وفرعون يتخبّط في الماء يدركه الغرق؛ فيشهد حين لا تنفعه الشّهادة {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس: 90-92].
نطلّ على الأيّام الصّعبة الّتي عاشها الكليم وقومه، لندرك تمامًا أنّ لحظة النّصر ونشوته لا تمثّل إلّا نقطةً في بحر المجاهدة ضدّ أعداء الله.
لقد كانت اللّحظة الّتي دخل فيها المجاهدون دمشق لحظةً هائلةً عجيبةً بكلّ المقاييس، لا تذكّرك وأنت ترى جنود النّظام البائد هاربين إلّا بيوم عاشوراء، يوم أنجى الله كليمه وأغرق عدوّه، لكنّ لحظة النّصر تلك تُخفي وراءها ما تخفي مِن آلامٍ ومصائب ومصاعب، وعقباتٍ كأداء، وجرحى وشهداء، وأرامل ويتامى وأشلاء، ثمّ يأتي نصر الله عزيزًا يمسح الجراح، ويطبّب النّفوس.
لم ينفلق البحر للكليم مِن أوّل يومٍ، وإنّ الّذي فلقه آخرًا لقادرٌ على أن يفلقه أوّلًا، ولكنّ سنّة الله جرت أن يُمتحن العباد في دار الامتحان هذه، حتّى إذا ما صبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا أفلحوا وأنجحوا وانتصروا وانتصفوا، فلنصُم يوم عاشوراء شكرًا لمن أحيا وأنجى وأعزّ ونصر وجبر، ولنضمّ إليه يومًا قبله أو بعده؛ فنخالف أعداءنا.
1- مولودٌ مردودٌ
صرخات مولودٍ جديدٍ تخرق الصّمت المحيط، لحظةٌ كهذه لها أن تكون لحظةً بالغة السّعادة للأمّ الّتي عانت ما عانت في الحمل والوضع، لتسمع أخيرًا هذا الصّوت، لكنّها في الحالة الّتي نحن فيها، لحظة قلقٍ وخوفٍ وترقّبٍ، إذ القرار اتُّخذ في البلاط بقتل المواليد الذّكور في هذا العام {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 3-4].
يريد الملك فرعون هناك أن يقتل الوليد، لكن يريد الله لهذا الوليد أن يشبّ فيصير كليمًا، فينقذ به المستضعفين {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 5].
وقد أثبت وِلدان درعا صرخاتهم يومًا ما على جدران مدارسهم، فأراد الظّلمة قتل صرخاتهم، وأراد الله لهذه الأمّة عزًّا ونجاةً مِن ذاك الاستضعاف.. ألهم الله أمّ الوليد {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [القصص: 7-9].
فتأمّل كيف تحقّق مراد الله على يد أعداء الوليد، وكانوا له أشدّ الأعداء، فاستحالوا رعاةً له وحماةً، فكن في صفّ القويّ العزيز يتحقّق لك مرادك.
وأمّ موسى لم تعلم بما آل إليه حال ابنها وقد قذفته في الأمواج، لا تدري على أي شاطئٍ رست به {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 10-13].
وعدها الله بوعدين؛ ما أسرع ما رأت أوّلهما! وعدها أنّ الوليد مردودٌ لها، وها هو بين ذراعيها تضمّه ما تشاء وتشمّه، وفوق ذلك يحميه الجند الّذين كانوا مِن قريبٍ له طالبين، أمّا الوعد الثّاني فهو أن يصير مِن المرسَلين، أمّا الرّسالة فتحتاج نضجًا ورشدًا، وهو ما سيكون في حينه، والنّضج لا يكون إلّا مع التّجارب الّتي تصقل المواهب وتبرزها.
ما كنتَ إلّا السّيف زا دَ على صروف الدّهر صقلًا
2- الكليم الحكيم
ثمّ دارت الأيّام دَورتها، وشبّ الصّبيّ، وآتاه الله حكمًا وعلمًا، وانتصر للمظلوم مِن قومه {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18].
وما أكثر ما أصبحنا وأمسينا في مدننا خائفين نترقّب، وقد انتصرنا للمظلومين مِن قومنا، وكنا نتعزّى بخوف الكليم وهو مِن أُولي العزم، تترصّدنا طائرات الظّلمة وقذائفهم وصواريخهم، الملأ مِن الظّلمة يأتمرون بنا ليقتلونا، فنقول للثّائر: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص: 20].
ولا نجد إلا النّزوح ملاذًا، وكأنّ الآية نزلت في الثّائر يغادر مدينته بعد أن أصبح فيها خائفًا يترقّب {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21].
وفي الأرض منأًى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متعزّل
ثمّ هناك في محلّ نزوحه يجد موسى مَن يطمئنه في مدين {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 25].
زال الخوف، وبنى موسى أسرته كادحًا بعد شبابٍ أمضاه في ظلال القصور {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص: 27].
انظر إليه! عشر سنواتٍ مِن الكدح ورعي الغنم يرجع بعدها بأهله إلى مصر {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 29-30].
إنّه الوعد الثّاني يتحقّق، وهذا الوليد يصير كليمًا، بعد أن قاسى ما قاسى جرّاء انتصاره للمظلومين، لم يكّلمه الله فقط، بل آتاه مِن الآيات ما على مثلها يؤمن النّاس {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص: 31-33].
خاتمةٌ:
الخوف مرّةً أخرى يظهر في منطق الكليم {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص: 33-34].
في مدين طمأنه الشّيخ الصّالح، وهنا طمأنه الله {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 45-46].
وإذا كان الله معك فلا خوف، ستظلّ هذه عقيدة الكليم وعقيدة الثّوار في سوريا حتّى في أحلك الظّروف، بعد مجالدةٍ ومجادلةٍ طويلةٍ مع الكفّار يبلغ الضّعف أقصاه، وتبلغ القلوب الحناجر، فيهتف الموقنون بالله: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} فيأتي بعد هذا اليقين النّصر المبين {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشّعراء: 62-68].
هل يجب على الحسين أن يُقتل دائمًا؟ أخذ معاوية البيعة لابنه، اجتهادٌ مِن صحابيٍّ جليلٍ رأى فيه استقرار الأمر وثبوته، لكنّ الحسين أبى ذلك، فلم يبايع، وخرج يصلح شأن الأمّة مغرّرًا بنفسه في سبيل ذلك، واعجب لمن يرى الصّلاح في خروج الحسين على يزيد، ولا يراه في ثورة أبناء الشّام على فرعونهم، وقد آل الحكم إليه وراثةً، كأنّ البلاد ملك أبيه يصرّفها لمن يشاء، إنّ أبناء الشام أحقّ وأجدر بالثّورة على فرعونهم، وقد أفسد هو وأبوه وعمّه في البلاد ما أفسدوا، وإذا كان الحسين رمزًا للتّضحية في سبيل تصحيح الأوضاع الفاسدة؛ فكَم مِن حسينٍ خرج بيننا يصحّح فاسدات الأمور {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].
كم مِن حسينٍ قدّمت ثورتنا، لكن كتب الله لبعضنا أن يروا فِرار الفرعون، وأراد أن يمنّ على المستضعفين، فجعلهم أئمّةً وجعلهم الوارثين، فله الحمد والمنّة.