1- كتابٌ وحِكمةٌ
2- طاعته صلى الله عليه وسلم دِينٌ
مقدمة:
عرف المسلمون لنبيّهم صلى الله عليه وسلم قدرَه؛ لما وجدوا مِن النّصوص الّتي تُعلي مِن شأنه وتبيّن مكانته صلى الله عليه وسلم، إلّا أنّ بعض النّاس انحرفوا عن جادّة الصّواب، فخلطوا بين حقٍّ وباطلٍ، أمّا الحقّ الّذي أتوا به فهو أن أقرّوا للنّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمكانة المرموقة، والمقام العالي، وأمّا الباطل فهو أن قصروا تلك المكانة عن أن يكون حديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم تشريعًا وحجّةً يُحتج بها في ميدان الأحكام، فقالوا: حسبنا القرآن، فهو كلام الله جل جلاله، وهو الحجّة الّتي يُستدلّ بها على ثبوت الأحكام.
ولتزيين هذا الباطل أتوا ببعض النّصوص مِن القرآن؛ كقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وقوله {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النّحل: 89].
وهي في الحقيقة ليست حجّةً لهم، إذ القرآن أمر بطاعة النّبيّ كما سنرى.
إنّ ممّا تنبّأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهور طائفةٍ كهذه، وأتبع هذه النّبوءة بالرّدّ على ما زعمت تلك الطّائفة؛ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ، وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ، إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ).
إنّ مَن يقول تلك المقالة ويزعم معها أنّه يعظّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقد ناقض نفسه، إذ زَعم تعظيمَ النّبيّ صلى الله عليه وسلم مِن جهةٍ، ثمّ اجتهد أن يسلب الحجّيّة عن حديثه الشّريف، ممّا يوحي أنّ التّعظيم والتّبجيل إنّما هو غلافٌ جميلٌ غلّفوا به فكرتهم القبيحة.
1- كتابٌ وحِكمةٌ
لم يُنزل الله سبحانه على نبيّه صلى الله عليه وسلم الكتاب فقط، بل أنزل عليه الكتاب والحِكمة، وتضافرت الآيات القرآنيّة لتأكيد هذا المعنى؛ فهذه دعوة الخليل {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129].
وهذه استجابة الدّعوة {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151-152].
وهذا أمر الله عز وجل {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231].
ومنّته سبحانه على المؤمنين، فله الحمد والمِنّة {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].
وهذه مِنّته جل جلاله على رسوله صلى الله عليه وسلم {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النّساء: 113].
وهذا أمره عز وجل لنساء النّبيّ صلى الله عليه وسلم {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34].
وجديرٌ بنا في خطبة الجمعة أن نقرأ أوّل آيتين مِن سورة الجمعة {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 1-2].
إنّ هذا الحشد مِن الآيات الّتي تنصّ بوضوحٍ على اجتماع أمرين تجدر عنايتنا بهما وهما: الكتاب والحكمة، هذا الحشد يؤكّد على وجود أمرٍ جاء به النّبيّ مختلفٍ عن القرآن مغايرٍ له، وهو الحكمة، الّتي هي سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان الحال كذلك فمِن البديهيّ أن تكون سنّته صلى الله عليه وسلم -وهي الحكمة الّتي أوتيَها وأُمر نساؤه بذِكرها- حجّةً يُحتجّ بها في الأحكام، وبما أنّ الحكمة تصدر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد عصمه الله سبحانه أن تختلط حكمته بالهوى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النّجم: 3].
فهي حكمةٌ مصونةٌ أن يشوبها ما يشوب كلام النّاس مِن أهواءٍ وميولٍ شخصيّةٍ، بل هي حكمةٌ مجرّدةٌ تصلح أن يستدلّ بها المسلمون على أحكام دِينهم.
2- طاعته صلى الله عليه وسلم دِينٌ
ما أكثر ما أمرت الآيات بطاعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
فالآية هنا جعلت التّولي عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم جزءٌ مِن الكفر، وقد أمرنا القرآن بطاعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والرّد إليه عند التّنازع {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النّساء: 59].
وقد أوجب الله جل جلاله علينا طاعته ما سمعنا قوله، وجعل الّذين لا يستجيبون له كالدّواب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 20-24].
وقد جعل الله عز وجل طاعة الرّسل مطلوبةً، بل غايةً مِن غايات إرسالهم، وأمَر بالاحتكام إليهم، وأقسم سبحانه أنّه لا يتمّ الإيمان إلّا بهذا التّحكيم {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا * فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النّساء: 64-65].
وإذا استقرّ لدى المسلمين أهميّة الصّلاة والزّكاة فقد قرن الله سبحانه بهما وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم، وجعل ذلك علّة للرّحمة {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النّور: 56].
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 13].
وقد جعل الله عز وجل طاعته صلى الله عليه وسلم علّة دخول الجنّة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النّساء: 13].
مع خير صحبةٍ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النّساء: 69].
وصرّح أنّ طاعة الرّسول صلى الله عليه وسلم طاعةٌ لله {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النّساء: 80].
خاتمةٌ:
إنّ ادّعاء تصديق النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما جاء به مِن الوحي عن ربّه سبحانه ثمَّ عدم قبول سنّته صلى الله عليه وسلم ادعاءٌ فيه تناقضٌ واضحٌ، إذ إنّ الخبر الأوّل هو إخباره عن نفسه أنّه نبيٌّ، فكيف نقبل خبره عن نفسه أنّه نبيٌّ، ونقبل خبره عن القرآن أنّه كلام الله جل جلاله، ثم نضرب الذِّكر صفحًا عن سائر أخباره وأوامره صلى الله عليه وسلم؟ علينا أن نصدقه مِن بداية الأمر إلى نهايته، فنكون بذلك متّسقين مع أنفسنا، ماضين على صراطٍ مستقيمٍ، لا نكون كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعضٍ.
وإنّنا بتصديقه والسّير على هدي سنّته صلى الله عليه وسلم ننجو مِن تهديدٍ شديدٍ ووعيدٍ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النّور: 63].
فمن يعصه فالنّارَ النّارَ {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجنّ: 22-23].
يومها يودّ العاصي لو تسوّى به الأرض {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النّساء: 41-42].
إنّ مِن تمام انتصارنا لنبيّنا صلى الله عليه وسلم -ونحن نرى هجوم الأعداء عليه- أن نتمسّك بسنّته، وأن نعلم أنّها جزءٌ مِن دِيننا، فدِيننا ليس مقصورًا على القرآن فحسب، بل إنّ ما حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرّم الله، وإنّ الله سبحانه آتى نبيّه صلى الله عليه وسلم الكتاب والحكمة، وأمر بطاعة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ونفى أن يختلط قوله بالهوى، لذا لا ينطلي علينا مدح بعض النّاس للنّبيّ صلى الله عليه وسلم في مطلع كلامهم، ثمّ إذا وصل الأمر إلى تحكيم سنّته أبَوا وجمعوا إلى إبائهم زعمهم بأنّهم مؤمنون {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} [النّساء: 64-65].