1- رأس الفضائل وجِماع الشَّمائل
2- فقدان الحياء سبب الشَّقاء
مقدمة:
{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61].
في هذا المقام العظيم، يُحتّم على المؤمن الصّادق أن يراقب مولاه في كلّ خُطوةٍ وخَطرةٍ، وفي كلّ لفظةٍ ونجوى، وأن يخشاه في السّرّ والعلانية، وأن يستحيي منه حقّ الحياء، فالحياء يروّض العبد على التّربية الرّبانيّة، ويدرّبه على المراقبة الإلهيّة، ويقوده إلى أدب السّلوك مع ملك الملوك، وهو أمارةٌ دالّةٌ على حُسن السّريرة، وسلامة الطّويّة، وعلامةٌ دالّةٌ على ما يتحلّى به الإنسان مِن عفّةٍ وشهامةٍ، تمنعه مِن ارتكاب القبائح والشّرور، وتحجزه عن اقتراف الآثام والفجور، وتردع نفسه عن شهواتها المحرّمة، وتمنعها مِن الطّغيان ومجاوزة الحدود، وتردّها إلى الهدوء والرّزانة، وتقودها إلى الحقّ والعدل والأمانة، وقد أخبرنا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الحياء صفةٌ نبيلةٌ مِن صفات الله جل جلاله، عَنْ يَعْلَى رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلًا يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: (إِنَّ اللهَ جل جلاله حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسِّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ).
كما أنّها صفةٌ مِن صفاته صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ).
ومع ذلك كلّه فقد وُجد في النّاس مَن يرتكبون مِن الأخطاء ما يرتكبون دُون أن يستحيوا، وكأنّهم قد خلعوا برقع الحياء عن وجوههم، وقد يتعلّلون فيقولون: إنّ الامتناع عن المعصية أمام النّاس لونٌ مِن الرّياء، فيأتون مِن السّيّئات ما يريدون بلا وازعٍ ولا رادعٍ، فإلى هؤلاء يُساق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ).
إذا لم تخش عاقبة اللّيالي ولم تستحي فاصنع ما تشاءُ
فلا والله ما في العيش خيرٌ ولا الدّنيا إذا فُقد الحياءُ
يعيش المرء ما استحيا بخيرٍ ويبقى العود ما بقي اللّحاءُ
1- رأس الفضائل وجِماع الشَّمائل
إنّ الإسلام هو دِين الأخلاق الفاضلة، والشّمائل الطّيّبة الحسنة، وقد دعا إلى التّحلّي بالفضائل، والتّخلّي عن الرّذائل، وإنّ مِن أعظم هذه الأخلاق وأهمّها: خُلق الحياء، ويعني: "انقباض النّفس مِن شيءٍ وتركه، حذرًا عن اللّوم فيه".
فالحياء عماد الشّعب الإيمانيّة، به يكمل الدِّين، وتسود الفضيلة، وتنعدم الرّذيلة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ).
قال السّعديّ رحمه الله: "هذا الحديث مِن جملة النّصوص الدّالّة على أنّ الإيمان اسمٌ يشمل عقائد القلب وأعماله، وأعمال الجوارح، وأقوال اللّسان، وذكر هنا أعلاه وأدناه وما بين ذلك، وهو: الحياء، ولعلّه ذَكَر الحياء لأنّه السّبب الأقوى للقيام بجميع شُعب الإيمان".
فلِلحياء مزيّةٌ كبرى في سلوك الإنسان في الحياة، لأنّه مِن أقوى الرّوابط الّتي تربط الأخ بأخيه، والولد بأبيه، والزّوج بزوجه، والصّديق بصديقه، وبذلك يكون المجتمع متعاونًا متآزرًا متماسكًا قويًّا متينًا، يقطع سيره في نظامٍ شاملٍ مِن السِّلم والاستقرار، وهو خاصّيّةٌ مِن الخصائص الّتي حبا الله عز وجل بها الإنسان، ليبتعد عن المعاصي والشّهوات، وحينما بدت لآدم وزوجه سوءاتهما، أسرعا يأخذان مِن ورق الجنّة ليسترا عوراتهما {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22].
وهذا يدلّ على أنّ الإنسان مفطورٌ على الحياء، وهو خُلق الأنبياء، وحلية الأتقياء، فقد جاء في وصف موسى عليه السلام أنّه كان شديد الحياء، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ).
ولقد حثّنا نبيّنا صلى الله عليه وسلم عليه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ: (اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ عز وجل حَقَّ الْحَيَاءِ)، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْتَحِيِي، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: (لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَنِ اسْتَحْيَى مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى، وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا وَعَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ، تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدِ اسْتَحْيَى مِنَ اللهِ سبحانه حَقَّ الْحَيَاءِ).
فلنلزم العفّة والحياء، ولنجتنب القُبح والفحشاء.
2- فقدان الحياء سبب الشَّقاء
لقد أخذ سلفنا الصّالح بالفضائل النّبيلة، وتلقّوها تلقّيًا روحيًّا وعمليًّا، فكانوا خير أمّةٍ أُخرجت للنّاس في الدِّين والدّنيا، وأصبحوا مضرب الأمثال في سموّ الأخلاق واستقامة السّلوك، والتّرفّع عن سفاسف الأعمال ومحقّرات الأفعال، ثمّ خلف مِن بعد هؤلاء خُلوفٌ، ضيّعوا الأخلاق، وداسوا القيم، ومزّقوا العفاف، وهتكوا أستار الحياء، حتّى خربت ذمم كثيرٍ مِن النّاس اليوم، وانتشر الكذب في الأيمان بسبب فقدان الضّمير، وضياع خُلق الحياء، فالثّقة أساس التّعامل، ولا يُوثَق إلّا بشريف المعاملة، يستحي مِن التّطفيف والغشّ والتّضليل، وبالحياء تُنظَّم المعاملات، وتُحفظ العهود، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ).
وما رأينا -اليوم- النّساء يخرجن عرايا في الطّرقات، يعرضن زينتهنّ للرّجال، ولا يخجلن مِن التّفاخر والتّمايل إلّا لمّا فارقهنّ الحياء وتبرّأ منهنّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي مِنْ أَهْلِ النَّارِ، لَمْ أَرَهُمْ بَعْدُ، نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ، عَلَى رُؤُوسِهِنَّ أَمْثَالُ أَسْنِمَةِ الْإِبِلِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَرِجَالٌ مَعَهُمْ أَسْيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ، يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ).
وقد سمّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الصّنف بالكاسيات العاريات لأنّهنّ يلبسن الثّياب، ومع هذا فهنّ عارياتٌ، فثيابهنّ لا تسترهنّ لرقّتها وشفافيّتها وضيقها، فتُظهر النّساء كثيرًا مِن أجسادهنّ، فينتج عن إظهار مفاتنهنّ انتشار الفاحشة، وذلك علامةٌ مِن علامات السّاعة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ الْفُحْشُ).
ولقد قال الإمام النّوويّ رحمه الله في تعليقه على حديث الكاسيات العاريات: "هذا الحديث مِن معجزات النّبوّة، فقد وقع هذا الصّنفان، وهما موجودان".
ومعلومٌ أنّه لم يكن وقتئذٍ مسرحٌ للتّعريّ، أو عرضٌ للمشاهد الجنسيّة أمام ملايين المشاهدين وغير ذلك، ولا يزال الشّرّ في اتّساعٍ، والفاحشة في انتشارٍ وللأسف، فما سيقول هذا الإمام لو رأى ما يحدث الآن على الأرض؟! وإنّ ما يُحزن القلب ويُبكي العين أنّ كثيرًا مِن الآباء والأزواج قد فقدوا الغيرة على نسائهم، وأصبحوا يرون بناتهم بهذه المناظر الفاضحة ولا يهتمّون، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (ثَلَاثَةٌ قَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْعَاقُّ، وَالدَّيُّوثُ، الَّذِي يُقِرُّ فِي أَهْلِهِ الْخَبَثَ).
فأين الرّجولة والعزّة والكرامة؟! وأين الحياء والشّمم والإباء؟!
خاتمةُ:
ما أجمل أن يسود الحياء في المجتمع المسلم فيرتفع بأخلاق أفراده، ويعلو بآدابهم، وتشيع بينهم الخصال الكريمة والفضائل الحميدة، عَنْ أَبِي السَّوَّارِ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ).
فالحياء مصدر كلّ خيرٍ وبرٍّ، ونواة كلّ مروءةٍ وكرامةٍ، وهو في المعاملة يُسمّى شرفًا وعزًّا، وفي النّساء يُسمّى عفّةً وطهارةً، وفي حفظ الأعراض يُسمّى غيرةً ونخوةً، فإذا ذهب الحياء فعلى الدّنيا العفاء.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الحياء إذا منع صاحبه مِن تعلّم أمور الدِّين والسّؤال عنها أصبح مذمومًا، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنه قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ)، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ، تَعْنِي وَجْهَهَا، وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: (نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا).
وإنّ مِن أهمّ مظاهر نقص الحياء ما يُرى مِن بعض النّساء مِن التّبرّج والسّفور، والعبث بالحجاب الشّرعيّ، وعدم المبالاة بالاختلاط بالرّجال في ميادين التّعليم والعمل وغيرها للأسف، كما أنّ بعض شباب المسلمين لَيعبّر عن قلّة حيائه بلبسه السّروال القصير، الّذي يكشف فخذه، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جَرْهَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهِ وَهُوَ كَاشِفٌ عَنْ فَخِذِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (غَطِّ فَخِذَكَ فَإِنَّهَا مِنَ الْعَوْرَةِ).
فلنتجمّل بهذا الخلق العظيم، ولنروّض عليه أنفسنا، ولنعوّل عليه في جميع شؤوننا، ولنستح مِن الله جل جلاله حقّ الحياء.