الخميس 16 شوّال 1445 هـ الموافق 25 أبريل 2024 م
غلاءُ الأسعار
الجمعة 17 ذو القعدة 1435 هـ الموافق 12 سبتمبر 2014 م
عدد الزيارات : 6030

 

قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ، وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ). . [ سورة النحل: 112]

عباد الله:

إن الله سبحانه يضرب لنا مثلاً -للعظةِ والعبرة- في قريةٍ من القُرى كانت تنعمُ بأمنٍ واستقرار، وطمأنينةٍ ورغَدٍ من العيش، لا يعرفُ أهلُها الجوعَ والخوفَ، ولا الفاقةَ والحرمان، فَهُمْ في أوجِ لذاتِهم، وغايةِ سعادَتِهِم.

لكنَّ أهلَ القريةِ المغفَّلين، ظنُّوا أنَّ ذلك بسببِ حَسَبِهِم ونَسَبِهِم، ومكانَتِهِم عند الله، وأنهم يستحقون ذلك لفضلهِم وتميُّزهِم على الناس، فتجرَّأَ المغفلون على انتهاكِ محارمِ الله، وتجاوُزِ حدودهِ سبحانه، مغترِّينَ بإمهالِ اللهِ لهم، وصبرِه على انحرافهِم وظلمهِم وبغيهِم، فبدلاً مِنْ أنْ يشكروا ربَّهم، ويعترفوا بإحسانِه إليهِم، وتفضُّلِه عليهِم، ويلتزموا حدودَه، ويعرفوا حقوقَه، إذا بهم يتنكَّرُون للمُنْعِم العظيم، ويتجرَّؤون في سفهٍ على العزيزِ الحَكِيم، الذي يقول: (يا عِبَادِي فَاتَّقُونِ) ﴿١٦ الزمر﴾ ويقولُ: (وإيَّايَ فَارْهَبُونِ)(البقرة 40)
فماذا كانتِ النتيجة ؟
وما هي النهايةُ والعاقبةُ بعد ذلكَ الإمهالِ والصبرِ الجميلِ؟

إنَّ القرآنَ يختصرُ العقوبةَ المدمِّرة، والنهايةَ الموجِعَة، في كلِمَتَيْنِ اثنَتيْنِ، (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)(النحل:112).
فرَغَدُ العيشِ وسَعَةُ الرزقِ، تتحولُ في طرْفةِ عين، ولمحةِ بصرٍ، جوعاً يَذهبُ بالعقول، وقِلَّةً في الرِّزق وغلاءً في الأسعارِ تتصدعُ له القلوبُ والأكباد. فإذا البطونُ المَلأى، والأمعاءُ المُتْخَمَة، يتضوَّرُ أصحابُها جوعاً، ويصطلون حسرةً وحرمانا، وإذا الأمْنُ الذي كانوا يفاخرون به الدُّنْيَا ينقلبُ رُعْباً وهَلعَا، لا يأمَنُ المرءُ على نفسِه وعرضِه، فضلاً عن مالهِ ومُلكِهِ، فانتشرَ المجرمونَ والقتلة، يسفكونَ دماءَ الناسِ، وينتهكونَ أعراضَهم، ويحوزونَ أموالهَم، وأصبحَ باطنُ الأرض، خيراً من ظاهِرها، في تلك القريةِ البائسةِ المشؤومَة.
ولقدْ ذاقتْ أمَّة الإسلام عبرَ تاريخِها، ألوناً من العقوباتِ المدمِّرةِ، التي يشيبُ من هولِهِا الوِلْدان، مِنْ غَلاءٍ في الأسعارِ، وقلةٍ في الأرزاق.
وههنا حوادثُ سطَّرها أهلُ العلم في كُتُبِهِم، ونَقلَ أخبارَها المؤرِّخونَ في مصنَّفَاتِهم، فإليكم طرفاً، مما حدثَ لهذه الأمَّة، حينَ كفرتْ بأنْعُمِ الله، واستجابتْ لداعي الهوى والشيطان، لعلَّنا نتعظَ ونعتبرَ، ونلجأ إلى ربِّنا، إذ لا مَلجَأ مِنَ الله إلا إليه. يقول ابن كثير -في أحداث سنة ثلاثمئة وأربع وعشرين للهجرة: وفيها وقعَ ببغدادَ غلاءٌ عظيمٌ، وفناءٌ كثير، بحيث عُدِمَ الخبزُ فيها خمسةَ أيامٍ، وماتَ من أهلِها خلقٌ كثير، وكان الموتى يُلْقَوْنَ في الطريقِ ليسَ لهم مَنْ يقومُ بهم، ويُحملُ على الجنازةِ الواحدةِ الرجلان من الموتى، وربَّما يوضَعُ بينَهُما صبيٌّ، وربما حُفِرت الحفرةُ الواحِدةُ فتُوَسَّعُ حتى يوضَعَ فيها جماعة. وذكرَ ابنُ كثيرٍ رحمه الله في أحداثِ سنةِ أربعمائةٍ واثنين وستين من الهجرة، ما أصابَ بلادَ مصرَ من الغلاءِ الشديد، والجوعِ العظيم، حتى أكلوا الجيفَ والميتةَ والكلاب، فكان الكلبُ يباع بخمسةِ دنانير، وكانَتِ الأعرابُ، يَقْدُمون بالطعام، يبيعونَه في ظاهرِ البلد، لا يتجاسرون على الدخول، لئلا يُخطفَ ويُنهبَ منهم، وكانَ لا يجسُر أحدٌ أن يَدْفِنَ ميتَه نهاراً، وإنما يدفِنُه ليلاً خُفيةً، لئلا يُنبشَ قبُره فيؤكل.
ووالله الذي لا إله إلا هو لولا أنَّ نقلة هذهِ الأخبارِ من علماءِ الأمة الموثوقين، والمحققينَ المتثبِّتينَ، لكانَ يصعبُ تصديقها.
يا عباد الله، إنَّ ما سمعتم من قصصٍ قد حصلت لمسلمين، إنها ليست أخبارَ مجتمعاتٍ كافرة، بل كانوا في تمسُّكِهم بدينِهم أحسنَ حالاً منا، ومع ذلكَ عاقبَهم الله بمثلِ ما سمعتم، وليس بينَ اللهِ وبين أحدٍ من خلقه نَسَبٌ، والسُّنَّة ماضيةٌ على الجميعِ (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).
قال الله تعالى: (ذلِكَ يُخَوّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) والله عز وجل يقول: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ) [الأنعام:43]
 فلا بد من الضَّراعة إلى الله بالدُّعاءِ والتوبَة، وتركِ ما أوجب العقوبَة، من فواحشَ ومنكراتٍ، ومبارزةٍ للجبار بالمعاصي والموبقاتِ.  
لكن قد يسأل سائل فيقول: ولماذا يعاقب الله تعالى بعض المجتمعات بقلَّة الأرزاق وغلاءِ الأسعار؟
فالجوابُ أن للعقوباتِ أسباباً كثيرة، يجمَعُها المعاصي والذنوب، والتكذيبُ والإعراض. ألمْ يقل ربُّنا: (وَمَا أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ)؟ (الشورى30) فمن أسبابِ العقوباتِ المدمِّرة، والفواجِعِ المهلِكة، وغلاءِ الأسعار: إبعادُ تحكيم شريعةِ الله بينَ العِباد، أو تطبيقُ الشرعِ عندما يكونُ من مصالِحِنا الشخْصِيَّةِ تطبيقُه، ونبذُه عندما يكونُ الحقُّ لِغَيْرنَا عَلَيْنَا، والله يتوعَّدُ الأمَّة إن فعلتْ ذلك، بالخزيِ والنَّكَالِ في الحياةِ الدُّنيا، ولعذابُ الآخرةِ أشدُ وأبقى، قال تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحياةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).(البقرة85)  وأيُّ خِزْيٍ يَعيشُهُ المسلمونَ أعظمُ وأطمُّ مِنْ هذا الخزي؟
ومن أسبابِ العقوبات كذلك: موالاةُ الكفارِ والتقربُ إليهم بالمودَّةِ والمحبَّة، بدلاً منَ المُؤمِنينَ النَّاصِحين، وقدْ أوضحَ لنا ربُّنا أنه لا يتولى الكفارَ، ويتقربُ إليْهم إلا منافِقٌ ظاهرُ النفاق، قال تعالى: (بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً، الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً)(سورة النساء - آية رقم 139)  ، وقد حدَّثنا التاريخُ عن عقوباتٍ حصلتْ لبعض الأمم التي والتِ الكافرين، كما حصل في بلاد الأندلس عندما والى أمراءُ الطوائفِ الصليبيينَ ضد إخوانِهمُ المسلمين، فنفَضَ الصليبيونَ البساطَ من تحتِ أقدامهِم، وألقوْا بهم في مزبلةِ التاريخ، وأصبَحَتْ بلاد الأندلسِ حسرةً في نفسِ كلِ مسلم، حين يذكرُ ما فيها من حضارةٍ وآثارٍ تركها المسلمون، ثم يذكرُ أولئكَ الأوباش الذين أضاعوا ذلك الفِرْدَوْسَ، بسبب ولائِهم لأعداء الله وأعداءِ الإسلامِ والمسلمين.
ومن أسبابِ العقوباتِ كذلك: انتشارُ الظلمِ في المجتمع، وغيابُ العدلِ فيه، فيأكلُ القويُّ الضعيفَ، وينهبُ الغنيُ الفقير، ويتسلطُ صاحبُ الجاهِ والمكانة على المسالِم المسكين، وحين تسودُ هذه الأخلاقُ الذميمة، والخصالُ المنكرة، ولا تجدُ من يقولُ للظالِم: أنتَ ظالم، فقد آن أوانُ العقوبة، واقتربَ أجلُها لو كانوا يفقهون. قال عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ). (سنن الترمذي 2168)
إن أسبابَ العقوباتِ أكثرُ مما ذكِرَ وليسَ المجالُ مجالَ استقصاءٍ، لكنْ في الإشارةِ ما يُغني عن العِبَارَة، والتلميحُ قدْ يُغْنِي عن التصريح.
والله سبحانه وتعالى قَدْ توعَّد الَّذِينَ يُخالِفون أمرَه، وينصرفُون عنْ ذِكْرِه، ويجترؤون على معاصيه بشديدِ غضبِه، وعَظِيمِ سَخَطِه، وحذَّرَهُم بأسَه وانتقامَه، فما بالُ كثير من النَّاس عمدوا إلى محارم الله فارتكبوها، ومأموراتِه فاجتنبوها، ثُمَّ عادوا يَشْكُونَ مِنْ تغيُّر الأَحْوَال، وانتزاع البركة من الأرزاق والأموال؟ (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (الأنفال  53)
وهَذَا الَّذِي نَحْنُ فيه من الانهماكِ في الدُّنْيَا، والابتعادِ عن الآخِرَة، وانتشارِ المعاصي بسرعةٍ هائلة، ما هُوَ والله إِلا بما كسبت أيدينا، قال تَعَالَى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ). (الروم 41)
وإن غلاءَ الأسعار، وما نراهُ اليوم من ضِيقِ العيشِ، وقِلةِ ذاتِ اليدِ، ما هُوَ وَاللهِ إِلا جزاءَ عملِنا، وما هُوَ إِلا قليلٌ من كثير؛ فقَدْ تمادَيْنا في المعاصي، واللهُ يغارُ على أوامِره أن تُعصى، ومحارمِه أن تُؤتى. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ، لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلا أُخِذُوا بِالسِّنِينِ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم: 3262
أو كما قال عليه الصلاة والسلام أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم

دور الخطباء في سوريا ؟!
دور فعال ومؤثر (صوتأ 114) 80%
غير فعال (صوتأ 27) 19%
لا أدري (صوتأ 2) 1%
تاريخ البداية : 26 ديسمبر 2013 م عدد الأصوات الكلي : 143