قال تعالى : وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ 
عباد الله، إن شهرَ رمضان لم يكن عند سلفِنا شهرَ صيامٍ وقيامٍ وإكثارٍ من العبادة فحسب، بل كان شهرَ جهادٍ ومجاهدة، فقد سطروا فيه أعظمَ الانتصارات وأكبرَ الفتوحات، وإن لياليَ هذا الشهر وأيامَه تحكي ما حققته الأمة من أمجاد وانتصارات، فما عرف التاريخ غزوة بدر والقادسية وعين جالوت، ولا فتح مكة ورودس والأندلس إلا في رمضان. فالترابط بين الصيام والجهاد وثيق، والصلة بينهما عميقة؛ فالصيام: مجاهدة للبطن والفرج عن الشهوات وسائر المفطرات، والجهاد: مغالبة لحظوظ النفس ونزغات الشيطان، ولذلك كان شهر رمضان عند أسلافنا شهر جهاد وفتوحات؛ ففي السنة الثانية للهجرة وفي السابع عشر من رمضان كانت غزوة بدر الكبرى، والتي جعلها الله فرقانًا بين الحق والباطل، وبين الإسلام والكفر. خرج صلى الله عليه وسلم في ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا من أصحابه، للاستيلاء على قافلة أبي سفيان القادمة من الشام. خرجوا لا يريدون قتالا. لكن قدَّر الله أن يُفلت أبو سفيان وينجو بالقافلة بعد أن أرسَلَ يستغيث بقريش. أما قريش فلما أتاها الصارخ خرجت بأشرافها كِبْرا وبَطَرا ورئاءَ الناس، ويصدونَ عنْ سبيلِ الله، معهم القِيان يغنين بهجاء المسلمين، فلما علم أبو سفيان بخروج قريش أرسل إليهم يخبرهم بنجاة القافلة، ويشير عليهم بالرجوع وعدم الحرب، فهمّوا بالرجوع فانبعث أشقاهم أبو جهل فقال: والله لا نرجع حتى نبلغ بدرا فنقيم فيها ثلاثا: ننحرُ الجزور، ونَطْعَمُ الطعامَ، ونسقي الخمر، فتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا. أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد استشار أصحابه، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال وأحسن، وقام عمر رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله خيرًا ودعا له. وهؤلاء الثلاثة كانوا من المهاجرين وهم قلة في الجيش. فقال عليه الصلاة والسلام: (أشيروا عليَّ أيها الناس) وإنما يريد الأنصار، فقال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. فقال سعد: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم؟ وإني أقولُ عن الأنصار وأجيبُ عنهم: فاظعَنْ حيثُ شئت، وصِلْ حبْلَ مَنْ شئت، واقطعْ حبلَ مَنْ شئت، وخذ مِن أموالِنا مَا شِئت، وأعطِنا ما شِئت، وما أخذتَ منا كان أحبَّ إلينا مما تركت، وما أمرتَ فيه من أمر فأمرُنا تبع لأمرك، فوالله لئن استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجلٌ واحد، وما نكرَه أن تلقى بنا عدوَّنا غدا، إنا لصبُرٌ في الحرب، صدقٌ عند اللقاء، ولعلَّ الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله. الله أكبر، إنه الحُبُّ الحقيقي، فلا بأس في قاموس العقلاء الصادقين في انتمائهم أن تبذلَ الأنفسُ والأموالُ في سبيل رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن تطيرَ الجماجم والرؤوس في سبيل إعلاء كلمة الله، إنه صدق الاتباع، يتمثل في مواقف الصحابة رضي الله عنهم، فلا تلكؤ ولا تردد، ولا انهزام، بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. أين هذا من تلك الانهزامية، وذلك التردد، وضعف الولاء عند عدد ليس باليسير من أبناء المسلمين؟ تأمل كلام سعد، تجد في كلامه وعيا صحيحا، وفهما سليما لهذا الدين، وكلهم على وعي سعد، فكيف لا ينصرهم الله عز وجل؟ فما إن سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام حتى قال: (سيروا وأبشروا؛ فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم) لقد تقابل ببدر صفان؛ صفُّ أنصار الله ورسوله، وصفُّ أنصار اللات والعزى وهُبَل. فلما طلعت قريش، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة -من أهل الإسلام- لا تعبد في الأرض)، فالتزمه أبو بكر من ورائه وقال: "حسبُك مناشدتك ربَّك يا رسول الله، أبشر فوالذي نفسي بيده لينجزن الله ما وعدك". فلم يرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، إلا والملائكة تنزل مددا تقاتل في صفوف المسلمين: (إِذ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ منَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ). وفي تلك الغزوة يأبى الشباب الطموح المتطلع إلى ما عند الله، يأبون إلا أن يصولوا صولتهم، ويجولوا جولتهم من بين صفوف المعركة، لتعلو بذلك كلمة الله من بين ظلال السيوف، يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: (بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بِغُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَار حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمِّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، قُلْتُ: أَلاَ إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي سَأَلْتُمَانِي فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ). الله أكبر! ما أهونَ الخلقَ على الله يا عباد الله إذا كفروا! فرعون الأمة، وصنديد من صناديد قريش، وعظيم من عظمائها، يأبى الله إلا أن يكون حتفه على يد شابين يافعين. فأين أنتم يا شباب الإسلام من ذلك الطموح؟ ماذا سجلتم لأمتكم؟ وماذا عساكم أن تفعلوا بفراعنة عصركم؟ وما مدى صلتكم بتاريخ آبائكم وأجدادكم الذين صنع الله على أيديهم البطولات؟ ستبقى غزوة بدر درسا للمسلمين يتعلمون منها أن الله تعالى يؤيد المؤمنين الصابرين، ويمدهم بمدده الذي لا ينفد، فهو سبحانه وتعالى القائل: (وكانَ حَقا عَليْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِين). أيها الصائمون لله رب العالمين، ورمضان شهر الفتح ففي العام الثامن من الهجرة، وفي اليوم العاشر من رمضان دخل القائد العظيم، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا، مطأطئَ الرأس، يكاد رأسه يمس رحله؛ تواضعا لله جل وعلا، دخلها وهو يقرأ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا). فأتى المسجد الحرام فطاف بالبيت على راحلته، وكان حول البيت ثلاثمئة وستون صنما، فجعل يطعنها بقوس معه وهو يقول: (جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زهُوقا) ويقول: (قلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ). فجعلت تلك الأصنام تتساقط على وجوهها تباعا، ثم دخل الكعبة فصلى بها، ثم دار فيها وكبر في نواحيها ووحد الله عز وجل. وبعد ذلك وقف على باب الكعبة، وقريش تحته ينتظرون ماذا يفعل بهم. فجعل ينظر إلى الناس، فنظر إلى وجوهٍ ذكرته بالعداء، وجوهٍ ناصبته الكراهية والحقد، وجوهٍ أخرجته وأصحابَه من أحبِّ البقاع إلى الله، وجوهٍ جمعت له الجموع والجيوش لتستأصله في مدينته المنورة، وجوهٍ قتلت أصحابه وأنصاره، وجوه إحدى وعشرين سنة، وهي تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلَّ من آمن معه. كان بإمكانه أن يشير بإحدى أصابعه إلى قواته المسلحة، وأن يحول شوارع مكة إلى أنهار من الدماء، ولكن تدرون ماذا فعل؟ ما كان يتهدد، وما كان يتوعد، وما عرف السجون، ما سمع بالمعتقلات، ولا أقر الظلم حتى مع الكفار. النفوس الكبار فوق الأحقاد والضغائن، فوق الرذائل والتشفي، لا تعرف حقداً ولا حسداً، وهل هناك يا عباد الله نفس أكبر من نفس محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ سألَ المصطفى وهو واقف على باب الكعبة: يا أهل مكة، ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: (خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم)، قال: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، (اذهبوا فأنتم الطلقاء). الله أكبر، يا له من نبيٍّ ما أعظَمَه! ومِن رسولٍ ما أكرمه! إننا إذا أردنا زعامة فليس لنا أسوة إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أردنا سياسة فليس لنا سياسة إلا في منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أردنا حكماً فليس هناك إلا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلنرجع إلى تاريخنا العظيم الذي يحدثنا عن بطولات أمتنا، وكيف كان المسلمون يقفون صفا واحدا، فأين المسلمون؟ وأين هم من هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم؟ آلاف المسلمين يُقتلون، والآلاف من المسلمين يشرَّدون، والمسلمون مع كثرتهم غثاء كغثاء السيل، كما أخبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
              وَكنا حِينَ يَأخذنا وَلِيٌّ بطغْيَان ندُوسُ له الجَبينا  ......   وَمَا فتِئَ الزمَانُ يَدُورُ حَتى مَضَى بالمَجْدِ قوْمٌ آخَرُونَا                                           وآلمَنِي وآلمَ كلَّ حُرٍّ سُؤالُ الدَّهْر: أيْنَ المُسْلِمُون ؟    ...  
يا حي يا قيوم بك نستغيث، أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين. أقول هذا وأستغفر الله.